الاثنين، 30 سبتمبر 2013

السائرون نياماً على حافة الحياة




نحن الرسائل المؤجلة في الأدراج ، الكلمات التي تحذفها الرقابة من النصوص، الطرقات غير المعبّدة
الجمهور المستعد للتصفيق ، المتبرعون بالدم وبالدموع وبالأعضاء ، الحالمون بطائرات تسافر إلى مدن بعيدة ،
اللصوص الصغار الطيبون ، مدمنو المقاهي و التبغ الرخيص، شاربو القهوة الرديئة،
الوجوه البائسة في معارض المصورين الفوتوغرافيين ، القصص الواقعية التي يستوحون منها الأفلام الحزينة
نحن المستمعون الأبديون لأغنيات الشيخ إمام وفهد بلان و ناظم الغزالي ،
الواقعون في سحر موسيقى الجاز وقبعة جيفارا و خطابات عبد الناصر ،
الناخبون الصامتون مُذ وضعنا أصواتنا في صناديق الاقتراع ،
المولودون في مساكن عشوائية و المدفونون في الحدائق العامة وفي المقابر الجماعية،
الجثث المجهولة الهوية ، النازحون من بؤس إلى آخر ، 
الموظفون المملون، باعة أوراق اليانصيب المتجولون ، ملمعو أحذية الآخرين
في طوابير طويلة نقف لنحصل على حصتنا من الحياة ،
أمام الأفران و رايات البلاد ودوائر الهجرة والجوازت
نحن السائرون نياماً على حافة الحياة
بأيادٍ أدمتها عصي الجلاد مازلنا نحمل الورد ، 
بأقدام شققها الارتحال مازلنا نتقصى أثر الحياة ....






كاتيا راسم
دمشق
30\9\2013

الأحد، 29 سبتمبر 2013

كي نبقى خبراًعاجلاً



كي لا يشعر العالم بالملل ، كان على موتنا أن يكون متجدداً ، أن يكون في كل مرة أكثر صخباً ...
كان علينا في كل مرة أن نبتكر طرق جديدة  نموت فيها ،فرادى أو جماعات ، بالقصف ، تحت التعذيب أو بالكيماوي ،
بين أربعة جدران  أو في أرض الله الواسعة ، أمام شاشات التلفاز ، قرب أسرّة أطفالنا الخائفين أو
على جبهات القتال ..
كي لا ينسانا العالم 
كي لا تؤخر المذيعات الأنيقات أخبارنا حتى نهاية النشرة ،
كي نبقى خبراًعاجلاً
كان علينا أن نموت كل مرةٍ أكثر.



كاتيا راسم
دمشق
29 \9 \2013



حبل غسيل -هيروشيما الزمن الحديث



لا شيء يشي بالحياة هُنا ، في هذا المكان بالذات ، غموض الخلق الأول، ضجيج المشهد الأخير،
رُكام يستند ببؤس على ركام آخرأشد بؤساً ، بيوت مُهدّمة وكأنها لم تكن أبداً ، لا أحد بالداخل ، لا أبواب لتقرعها ،
لا نوافذ لتسترق منها النظر، فلا ترهق صوتك بالنداء ولا خطاك بالبحث عن ما أفِل ..
كل شي رمادي بلون اسمنت الفقراء، كل شيء كئيب كصورة بالأبيض والأسود لهيروشيما في السادس من أغسطس من عام 1945 ، لكنك لست في هيروشيما حقاً ، ولست في العام 1945وهذا ما يجعل الأمر قاتلاً مرتين !

وسط هذا الركام هناك بيت صغير لا يزال قائماً تقريباً لولا فجوة كبيرة في الجدار أحدثتها قذيفة ما ،
على سطح هذا البيت حبل غسيل مع ملابس منشورة عليه ،إنها لأطفال صغار في سن المدرسة ،
ملابس كانت ملونة قبل أن تسلبها الشمس زهو وميضها ، قبل أن يدفن غبار الاسمنت بهجتها ..
على كنزة من القطع المنشورة تستطيع أن ترى "دورا" مبتسمةً وكأن شيئاً لم يكن تلوح بيدها وهي ترتدي حقيبتها العجيبة ..
أين هذه العائلة  الآن ؟
في أي منفى تراها؟
وهل ستعود لتزيل الغبار عن الثياب وعن قلوبنا وعن المشهد؟



كاتيا راسم
دمشق 
29\9\2013

الأربعاء، 25 سبتمبر 2013

دمشق تريد أن تذهب إلى باريس أيضاً ..


 " رسالة من رسائل كثيرة أتبادلها مع صديق قديم هاجر إلى فرنسا"

  
ليست مصادفة ، وكما تعلم كلانا لا يؤمن بالمصادفات، أن أجد كتاب الأعمال الكاملة ل "ايف بونفوا"
بعد أن فقدته لمدة سنة في إحدى الحقائب التي استخدمها بالفعل من وقت لآخر!!
وليست مصادفة أيضاً أن تناسب العبارة _التي كتبتها لي يوماً على الورقة الثانية بعد الغلاف الممزق _الحال التي أنا فيها الآن ..

" ستدركين يوماً أنكِ لست سوى فأر آخر يجري بلا طائل داخل دولاب الوجود  " ..

لا زلت أذكر ذلك اليوم كأنه الأمس القريب ، كنّا نجلس في مقهى "الحكي بيناتنا"
والذي للأسف صار محلاً لبيع الأحذية بعد رحيلك، لا أعرف إن كان هذا التحوّل يعني شيئاً أم أنه تحوّلٌ عشوائي ..
" أنت تبتسم أستطيع أن أتخيل ذلك" أنت تقرأ هذه العبارة وتبتسم أيضاً وربما أنت تشتمني الآن.. : )

كنت أقول أني أتذكر ذلك اليوم بتفاصيله ، مطر الساحل الذي يهطل فجأة كدموع مراهقة عاشقة
و ينتهي فجأة كدموع طفلة قدم لها الوقت قطعة حلوى ، المظلات الملوّنة كأزهار تجري في الشارع ، " محل أبو النور" حيث توقفنا لشراء الفطائر ،أذكر كيف هربنا من جنون الطقس إلى دفء ذلك المقهى ،لم يكن الأفضل، لم يكن ما اعتدنا عليه ، لكنه كان الأقرب للاحتماء من المطر ، فنجانا القهوة ، صوت المطر ، حركة النادل السريعة في مناولتنا المناديل الورقية لنجفف أنفسنا ، أذكر كيف أنك بدأت بتجفيف الكتاب قبل أن تجفف نفسك ، الكتاب الذي امسكه الآن بين يدي و قد اتلف المطر غلافه و نجا ما كتبته أنت لي عليه بأعجوبة ..

قد تسألني لماذا أخبرك بأمور أنت تعرفها بالفعل ، لماذا أرهق السرد بتفاصيل لا تأتي بجديد ، الجواب كله
يكمن في عبارتك تلك " ستدركين يوماً أنكِ لست سوى فأر آخر يجري بلا طائل داخل دولاب الوجود  " ..
أنا حقاً أدركت الآن أني فأر آخر يلهث بلا طائل داخل دولاب داخل قفص داخل ذاكرة ما ، ذاكرة لا تخصني..
كل شيء يرهقني ولا يرهق وجودي شيء ، أنا لا أساهم في هذا العالم سوى بما تسببه سجائري من تلويث للبيئة!
هذا الثقل الذي يمارسه الوجود عليّ ، هذه الخّفة التي أمارسها على الوجود ,, ضدّان مُرهِقان يتعاركان في إظهار تفوق الواحد منهما على الآخر على حساب حياتي أنا .!!

يرهقني الغياب ، يرهقني الوجود
يرهقني الصمت، ترهقني الكلمات
يرهقني التسليم ، يرهقني التوقّع
يرهقني الدخيل ، يرهقني الأصيل
وهكذا ... تناقضات ، تناقضات ، تناقضات.. لا تنتهي أبداً !!
فوضى عارمة تجرفني و تتوقع مني في ذات الوقت أن أعرف مكاني و دوري في كل هذه الفوضى !

أعرف أن الحياة تقاس بحجم القلق واللاطمأنينة ، وأن أجمل الأوقات تلك التي تُعاش على الحافة
لكن أن أعيش الحياة كلها في قلق وغياب تام للطمأنينة أمرٌ مُرهق ..!!
هل تستطيع تخيل مُهرّجاً بصباغ ملوّن على وجهه و ملابس مزركشة يقف على عجلة واحدة أمام جمهور عريض؟ هل تستطيع أن تتخيّل مهرجاً كذاك يقضي حياته على تلك العجلة وهو يرتدي ذات الثياب
أمام ذات الجمهور ويتوقع منه أن لا يسقط ، أن لا يجلس ليرتاح قليلاً ، أن لا يصير جمهوراً حتى؟!!

دعك من كل هذا الهراء الذي كنت أكتبه لك ..
ورداً على رسالتك  التي طلبت مني فيها السفر إلى باريس لترسمني على ضفاف نهر السين ،
ولأعيش الحياة كما لو كانت نزهة في حقل .
فأنا سأفعل ذلك في حالة واحدة ، هي أن استطيع وضع دمشق ، كل دمشق، في حقيبة، لآخذها معي : )
دمشق تريد أن ترى باريس أيضاً .. تريد أن ترسمها وهي مستريحة من صوت الرصاص و حزن الجنازات
على ضفاف السين حيث الحياة جميلة كنزهة في حقل .


كاتيا راسم
دمشق
26\9\2013


الثلاثاء، 24 سبتمبر 2013

" أبو عبدو " بائع الغاز .. يُحبني




 إنه الرجل الذي ليس بحاجة للتعريف ،النسخة المكررة للبؤس والفقر والبساطة ،
الرجل الذي يعرفه الجميع هنا لكن إن سألت أحدهم عن لون عيني أبي عبدو سيصفن طويلاً بمحاولة للتذكّر
ليجيب بعد ذلك بأنه لم ينتبه للونهما!

تبدأ جولة أبي عبدو في الصباح الباكر ، الساعة السابعة تقريباً يصعد على ظهر السيارة الزرقاء
المحملّة ب جرار الغاز ، وعلى وقع أغنية "وطني يا جبل الغيم الأزرق" تبدأ معاناته
وهو يجول في شوارع هذا الوطن مع جبل من جرار الغاز الزرقاء ، أبو عبدو لا يملك هذه الجرار كما كنت أتوقع ،
 إنه فقط أجير، عليه أن يبيعها ليحصل على أجرته البخسة عند حلول المساء ..
لا أحد يتحدث مع أبي عبدو إلا ليسأله عن آخر سعر وصل إليه الغاز ويلعن الغلاء، أو ليطلب منه تبديل الجرّة..
لكني كسرت هذا التقليد البغيض ، إذ أني كلما طلبت منه جرة غاز جديدة افتح معه سيرة ..

  ابدأ حديثي بالسؤال عن حاله، فيجيب بلهجة مطعّمة بالقليل من اللهجة الحلبية " من الله مناح"
وهذه إجابة ملغّمة وفيها شكوى خفيّة و محاولة لإبراز الرضا والقناعة في آنٍ معاً ..
وعندما أسأل أبا عبدو عن رأيه في ما آلت إليه البلد
يجيب بالعبارة التي هي مثل دارج " يلي بيتجوز أمي بصير عمي "
أي أنه مع من يحكم البلد كائن من كان .. وهذه أيضاً إجابة ملغمة و حيادية مدروسة !!
إنه يصطنع الرمادية فلا يفضل المعارضة على النظام ولا النظام على المعارضة ..
لأنه يخشى على عمله وعلى حياته لا يعبر عن رأيه بأريحية ،
 لكن إن سألت أبا عبدو إن كان يحب سوريا  فإنه يبتسم ابتسامة تقول الكثير
حتى أنك لا تحتاج لان تعيد عليه السؤال لتحصل على إجابة أكثر بلاغة !!

كل يوم يعبر أبو عبدو بالقرب من شرفتي حيث أجلس وأمامي جهاز الكمبيوتر أكتب لكم وأتصفح الجرائد
ألوح له بيدي فيتلفت يمينا ويساراً ليتأكد أن لا أحد يراه وهو يلوّح لي بالمقابل ..
أبو عبدو لا يقرأ جريدة القدس العربي ولا الحياة اللندنية كل صباح ، حتى أنه لا يقرأ جريدة الوحدة أو البعث !!
ولا يعرف أين تقع جينيف وسيصدقك لو قلت له أنها تقع على المريخ ..
أبو عبدو لا يعرف الائتلاف ولا أحمد الجربا أو صبرا أو هيثم المالح ..
ولا يعرف من أين تبدأ سوريا و أين تنتهي في الجغرافيا أو التاريخ
لكنه في قلبه الجميل والصامت يحب سوريا أكثر بكثير من المعارضين والمؤيدين
 الذين لطخوا الوطن بكلامهم الزائف ، بطمعهم وبمصالحهم الشخصية .


كاتيا راسم
دمشق
25\9\2013



السبت، 21 سبتمبر 2013

إذا كسرت التلفاز ، ستنهال عليك الجثث ..


هامش : للذين لا يعرفون " نايا " فهي أختي الصغيرة البالغة من العمر سبع سنوات
وهي بالصف الأول وليست بالصف الثاني
لأننا في السنة الماضية كنا في ظروف نزوح ولم نسجّلها بالمدرسة ،


نايا تكره الكتب التي انشغل بها عنها و تكره نشرات الأخبار التي تشغل العائلة كلها عنها ،
وتكره الحرب التي ينشغل العالم بأسره  فيها عنها ..

  لم تكن تعرف ماذا تعني كلمة "حرب" بالضبط ، وكانت تظنها "خناقة متل يلي بين ولاد الجيران"
وأن الجميع سيستيقظون بالصباح ليلعبوا معاً، بقلوب صافية لا تحمل أية ضغينة أو رغبة بالقتال من جديد ..
  
اضطرت نايا لأن تطور خزينتها من المصطلحات بسرعة كبيرة لا توازي عمرها
فمن سبونج بوب و شون ذا شيب و دمية باربي  انتقلت لتعرف المدفعية الثقيلة و الهاون
والدوشكا و الحواجز والانشقاقات و داعش والمتشددين و العلمانيين ، التنسيقيات ، الائتلاف ، المجلس الوطني ..الخ

حتى معلوماتها الجغرافية اتسعت، فمن دمشق " حيث بيتنا الذي هدم " واللاذقية "حيث نذهب كل صيف للسباحة"
صارت تعرف كل قرية في سوريا خصوصاً تلك التي حدثت فيها مجازر و اشتباكات ،
صارت تعرف أيضاً ، أمريكا وروسيا و اسطنبول و جينيف 1 وجينيف 2 " بالمناسبة هي تظن أنهما مدينتان مختلفتان !!
لم اصحح لها ذلك رغم أني أعرف أنهما تقعان في جيب النظام  " ما علينا " ..

كانت نايا تعرف أن للجميع دين واحد يقول بأن علينا أن نحب الله وأن لا نسرق أو نكذب أو نؤذي احداً
وصارت ترى كيف أن هناك ألف طائفة كل واحدة تقول أنها " تحب الله أكثر" وبالوقت ذاته تفعل كل ما يغضبه..

اتسعت معرفة نايا الإعلامية فمن طفلة  تتابع "MBC3" تظن أن سبونج بوب يقيم بالصندوق الذي هو التلفاز
وأنها إذا فتحته ستحصل عليه وستتخذه صديقاً لها،
تحولت إلى طفلة تعرف الجزيرة و العربية و BBC  و غيرها من المحطات الإخبارية ..
نايا لم تعد تريد فتح الصندوق " التلفاز " فهي صارت تعرف أنها بدلأ من سبونج بوب ستجد هناك
جثثاً و دبابات وبيوتاً مهدّمة و نساء يصرخن وأطفالاً مشردين..
نايا لم تعد تريد شيئاً سوى أن تذهب إلى المدرسة وتعود سالمة إلى البيت وتجد عائلتها بخير وبيتها الجديد هذا بخير..

حوار دار بيني وبينها انقله كما أتذكر منه ..

نايا:  بالمدرسة قاعد حدي صبي من قامشلو بس نزح للشام بقول انو كردي ؟ هيدول مناح ؟
" ألاحظ أنها تقول " قامشلو" كما يقول الأكراد وليس "قامشلي" كما نقول نحن"

أنا : هلأ يا نانا ما فيني قلك عنو ازا منيح او لا لأني ما بعرفو بكرا مع الأيام انتي بتتعرفي عليه و بتقليلي ازا هو منيح أو لا
" بمحاولة لتعليمها عدم أخذ أي رأي مسبق بشأن أي شخص أو طائفة أو تيار"

نايا : يعني احكي معو ازا حكي معي ، معليه ؟
أنا : أكيد حبيبتي ، لكن كيف فينا نعرف العالم ازا ما حكينا معن ؟
نايا : ما بعرف، بس ليليا خبرتني انو هول الجماعة ما مناح
أنا : ما تردي ع ليليا
بتتزكري لما قالت عنك روزا بنت جيرانا لرفيقتا يلي ما بتعرفك انك بتكزبي وانو ما تحكي معك ؟
نايا : أي
أنا : طيب انتي بتكزبي ؟
نايا : أكيد لا
أنا : طيب شفتي كيف ؟ ليليا متل روزا .. ممكن يكون كلامها ما صحيح
نايا : طيب لشو بيتنا القديم خربوه ؟
أنا : لأنن يلي هدمولنا ياه ما عندن بيوت حلوة ، خربولنا ياه لأنن غيرانين منا
نايا : بس هيدا بيتنا الجديد حلو كتير، رح يخربولنا ياه كمان؟
أنا : لا،  الله ما رح يخليهن
نايا : أنا بحب الله
أنا : وهو بحبك يلا اوام تأخرتي ع المدرسة

احصل على قبلة كبيرة و تغادر نايا إلى مدرستها سعيدة ..

هذه كانت نايا و هذا كان كل طفل سوري ..

كاتيا راسم
دمشق
22\99\2013

صندوق أسود \ حاجز للجيش النظامي \ طائفية ..



طائفية ..


    شاب بشَعرٍ طويلٍ معقودٍ للخلفٍ يجلسُ إلى جانبي في الحافلة، ومعهُ صندوق أسود لآلة موسيقية "غيتار" على الأرجح ،الشّاب مسيحيٌ ، عرفتُ ذلكَ من وشمٍ صغيرٍ على ظاهر كفه .. 
امرأةٌ محجّبةٌ في العقد السّادس من عمرها، تجلس أمامنا، و شاب ربما بالخامسة عشر من عمره يجلس في المقعد المجاور لها ،كان يرتدي سواراً أخضر في معصمه " إنه علوي" ..

    الشّاب علوي والمرأة سنيّة و الشّاب الآخر ذو الشَّعر الطّويل مسيحي ،
وأنا لست مُحجّبة ولا أضع صليباً ولا ارتدي خلعة خضراء ، كنتُ مجهولة الهوية الدينية تماماً ..
انطلقت بنا الحافلة ،كنّا نحتّل مقعدين متقابلين في الحافلة الصغيرة "السرفيس"مما أتاح لنا تبادل النظرات بسهولة، نظرات مفهومة وأخرى غير مفهومة ..

   المرأة كانت تنظر إلى الشاب بجانبها "إلى يده تحديداً " ثم تنظر من النافذة ، تنظر إلى الشاب المسيحي وآلته الموسيقية و تعود بنظرها إلى النافذة ، تنظر إلي بدأ من شعري المجموع بطريقة عشوائية مروراً بملابسي البسيطة ، انتهاء بالحذاء الرياضي الذي كنت البسه وتعود من جديد بنظرها إلى النافذة ..

   الشاب الصغير ذو السوار الأخضر ، كان ينظر إليّ كعاشق ،إنه مراهق في الخامسة عشر من عمره
وهذا يبرر له ، ثم ينتقل بنظره إلى الشاب المسيحي الجالس إلى جانبي بطريقةٍ فيها غموض وحسد
ويعود بنظره إلى المرأة بجانبه ..

 الشاب المسيحي ايضاً كان ينظر إلى الجميع وإليّ بطريقة غامضة ، شعرت بها كأنها تقول " ما دينك؟"

  سارت بنا الحافلة وأنا اشعر بالجميع ينظر إلي باحثاً عن إشارةٍ تدل على ديني أو طائفتي
العلوي ربما حسبني علوية ، السنيّة ربما ظنت أنني سنيّة ، المسيحي ربما حسبني مسيحية..
وهكذا حتّى توقّفنا عندَ حاجزٍ للجيش النظامي ، صعد الجندي مع بندقيته إلى حافلتنا وبدأ بطلب البطاقات المدنية
نظر لبطاقة الشاب العلوي وأعادها إليه بسرعة ،بطاقة المرأة كذلك فهي عجوز ليست قادرة على قتل أحد أو حمل حزام ناسف ، نظر إلى الشاب المسيحي وطلب منه أن يفتح الصندوق الأسود الذي كان يحمل "غيتاراً " بالفعل.. وأعاد له بطاقته المدنية ..
حان دوري،  أخذ هويتي بينما جميع من بالحافلة يحاولون استراق النظر إليها علّهم
يقرأون اسم عائلتي أو المكان الذي أتيت منه وبالتالي يستنتجون طائفتي ..

نظر الجندي إلى هويتي المدنية طويلاً و إلي بشكل مطول أكثر ، ابتسم ، وأعاد لي البطاقة ..
ضرب بيده على الحافلة من الخارج كإشارة للسائق أن الأمور بخير وأن بإمكان الحافلة الانطلاق..
وهكذا انطلقت الحافلة بنا و عاد الجميع يرمقون بعضهم بعضاً بنظراتٍ حذرة و يرمقونني بنظرات غامضة ..
شعرت بنفسي الطرف الذي أعطى التوازن لهذا المزيج ،
لم أرجح كفّة أية طائفة ، لم يكن هناك أقليات ولا أكثرية..
مسيحي ، مسلمة سنيّة ، مسلم علوي .. وأنا
وهكذا حتى وصلنا بسلام إلى وجهتنا ، لم نختلف ، لم نتشاجر ، لم نقتتل فما بيننا ..

كاتيا راسم
دمش
21\9\2013

الجمعة، 20 سبتمبر 2013

غرقى يشعرون بالعطش ..




" أكتب كلمة واحدة في دفتري
و أغلقه
حركة تكفي لكي تتغير الدنيا "

كلما قرأتُ قصيدةَ "حمّال الكلمات" لسركون بولص ، أتوقّف عندَ المقطعِ أعلاه، فأردد باستغراب :
كلمةٌ واحدةٌ / حركة / تتغير الدنيا ..  !!
كلمةٌ واحدةٌ / حركة / تتغير الدنيا .. !!
كلمةٌ واحدةٌ فقط؟!!
هل حقاً بمقدورِ الكلمات ِأن تغيّر شيئاً في العالم ؟
السؤال الأخير، بما يولدّه من شكِّ و قلقِ وغيابِ تامِّ للطّمأنينةِ ، هو السببُ الذي يجعلني أكتب بلا توقف ،
فانا لا أعرفُ إن كانَ هناك حقاً بابٌ للخروج بالعالمِ من هذا الوحل الأبدي
وأن كان هنالك  واحد ، فهل للكلمات أن تكون مفتاحاً لهذا الباب؟
وهكذا تدور الأسئلةُ في رأسي كطيورٍ جارحةٍ، تنتظرُ استسلامَ  فريستِها ..
 فأخرج بفكرةٍ واحدة هي أنني إن كتبت ربما سأعرف الحقيقة ، لكن إن لم أكتب فأنا حتماً لن أعرف
وهذا ما لا احتملهُ .
        ______________                                         

" أكتبُ لأشعر بحالٍ أفضل" / "أكتب لأفرّج عما بداخلي من حزن وهموم" / "أكتب لكي يبقى الأثر " ..
عباراتٌ اعتدت سماعَها كإجابةٍ على السؤال : " لماذا أكتب؟" ...
أنا حقاً لا أشعرُ بحالٍ أفضل بعد الكتابة
على العكس من ذلك ، أشعرُ بحملٍ ثقيلٍ وكأنّ الكلمات التي لم تكُن مِن قبلُ ، صار لها وزنٌ
وبدأ يُثقِل كاهلي ، أشعر بأنني احمِلُ معي كل ما كتبته ..

مرةً شاهدتُ حلقةً من مُسلسلٍ بوليسي يقوم القاتلُ فيه بقتلِ ضحاياه عن طريقِ إعطائهم مادةً تُشعِرهم بالعطش الشديد والذي لا يرويه الماء أبدا ، حتى في النهاية يقتلهم العطش بينما خلايا أجسادهم غارقة بالماء ..!!

العطش (الشكوى من نقص الماء) و الغرق الداخلي ( الشكوى من زيادة الماء) هذا التناقض بكل ما فيه من ارتباك و جنون هو ما أشعر به حيال الكتابة ،
العطش الذي يدفعني لجرعاتٍ أكثرَ من ماءٍ اعرفُ أنّه سيُغرِقني ، ولن يروي أبداً ضمأي..

كاتيا راسم
دمشق
21\9\2013