الأربعاء، 25 سبتمبر 2013

دمشق تريد أن تذهب إلى باريس أيضاً ..


 " رسالة من رسائل كثيرة أتبادلها مع صديق قديم هاجر إلى فرنسا"

  
ليست مصادفة ، وكما تعلم كلانا لا يؤمن بالمصادفات، أن أجد كتاب الأعمال الكاملة ل "ايف بونفوا"
بعد أن فقدته لمدة سنة في إحدى الحقائب التي استخدمها بالفعل من وقت لآخر!!
وليست مصادفة أيضاً أن تناسب العبارة _التي كتبتها لي يوماً على الورقة الثانية بعد الغلاف الممزق _الحال التي أنا فيها الآن ..

" ستدركين يوماً أنكِ لست سوى فأر آخر يجري بلا طائل داخل دولاب الوجود  " ..

لا زلت أذكر ذلك اليوم كأنه الأمس القريب ، كنّا نجلس في مقهى "الحكي بيناتنا"
والذي للأسف صار محلاً لبيع الأحذية بعد رحيلك، لا أعرف إن كان هذا التحوّل يعني شيئاً أم أنه تحوّلٌ عشوائي ..
" أنت تبتسم أستطيع أن أتخيل ذلك" أنت تقرأ هذه العبارة وتبتسم أيضاً وربما أنت تشتمني الآن.. : )

كنت أقول أني أتذكر ذلك اليوم بتفاصيله ، مطر الساحل الذي يهطل فجأة كدموع مراهقة عاشقة
و ينتهي فجأة كدموع طفلة قدم لها الوقت قطعة حلوى ، المظلات الملوّنة كأزهار تجري في الشارع ، " محل أبو النور" حيث توقفنا لشراء الفطائر ،أذكر كيف هربنا من جنون الطقس إلى دفء ذلك المقهى ،لم يكن الأفضل، لم يكن ما اعتدنا عليه ، لكنه كان الأقرب للاحتماء من المطر ، فنجانا القهوة ، صوت المطر ، حركة النادل السريعة في مناولتنا المناديل الورقية لنجفف أنفسنا ، أذكر كيف أنك بدأت بتجفيف الكتاب قبل أن تجفف نفسك ، الكتاب الذي امسكه الآن بين يدي و قد اتلف المطر غلافه و نجا ما كتبته أنت لي عليه بأعجوبة ..

قد تسألني لماذا أخبرك بأمور أنت تعرفها بالفعل ، لماذا أرهق السرد بتفاصيل لا تأتي بجديد ، الجواب كله
يكمن في عبارتك تلك " ستدركين يوماً أنكِ لست سوى فأر آخر يجري بلا طائل داخل دولاب الوجود  " ..
أنا حقاً أدركت الآن أني فأر آخر يلهث بلا طائل داخل دولاب داخل قفص داخل ذاكرة ما ، ذاكرة لا تخصني..
كل شيء يرهقني ولا يرهق وجودي شيء ، أنا لا أساهم في هذا العالم سوى بما تسببه سجائري من تلويث للبيئة!
هذا الثقل الذي يمارسه الوجود عليّ ، هذه الخّفة التي أمارسها على الوجود ,, ضدّان مُرهِقان يتعاركان في إظهار تفوق الواحد منهما على الآخر على حساب حياتي أنا .!!

يرهقني الغياب ، يرهقني الوجود
يرهقني الصمت، ترهقني الكلمات
يرهقني التسليم ، يرهقني التوقّع
يرهقني الدخيل ، يرهقني الأصيل
وهكذا ... تناقضات ، تناقضات ، تناقضات.. لا تنتهي أبداً !!
فوضى عارمة تجرفني و تتوقع مني في ذات الوقت أن أعرف مكاني و دوري في كل هذه الفوضى !

أعرف أن الحياة تقاس بحجم القلق واللاطمأنينة ، وأن أجمل الأوقات تلك التي تُعاش على الحافة
لكن أن أعيش الحياة كلها في قلق وغياب تام للطمأنينة أمرٌ مُرهق ..!!
هل تستطيع تخيل مُهرّجاً بصباغ ملوّن على وجهه و ملابس مزركشة يقف على عجلة واحدة أمام جمهور عريض؟ هل تستطيع أن تتخيّل مهرجاً كذاك يقضي حياته على تلك العجلة وهو يرتدي ذات الثياب
أمام ذات الجمهور ويتوقع منه أن لا يسقط ، أن لا يجلس ليرتاح قليلاً ، أن لا يصير جمهوراً حتى؟!!

دعك من كل هذا الهراء الذي كنت أكتبه لك ..
ورداً على رسالتك  التي طلبت مني فيها السفر إلى باريس لترسمني على ضفاف نهر السين ،
ولأعيش الحياة كما لو كانت نزهة في حقل .
فأنا سأفعل ذلك في حالة واحدة ، هي أن استطيع وضع دمشق ، كل دمشق، في حقيبة، لآخذها معي : )
دمشق تريد أن ترى باريس أيضاً .. تريد أن ترسمها وهي مستريحة من صوت الرصاص و حزن الجنازات
على ضفاف السين حيث الحياة جميلة كنزهة في حقل .


كاتيا راسم
دمشق
26\9\2013


هناك تعليق واحد:

  1. هذا بديع جداً يا كاتيا.. اللهم عجل بالسلام لذلك الروح المضطرب الذي يسكنها..

    ردحذف